عمر نشابة
الجمعة 19 أيلول 2025
هل هرب رئيس محكمة العدل الدولية نواف سلام من لاهاي بعد إصدارها أوامر للكيان الإسرائيلي بفك الحصار عن قطاع غزة وبعد تصاعد التهديدات الأميركية والإسرائيلية لقضاة المحكمة الجنائية الدولية الذين تجرّؤوا على إصدار مذكرات توقيف بحق رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو ووزير حربه السابق يوآف غالانت في تشرين الثاني 2024؟ وهل رضخ سلام، الذي استقال من المحكمة، للأميركيين منذ ذلك الحين مفضّلاً تبنّي سياساتهم، التي تتماهى معها السعودية والإمارات، بدل التمسّك بأداء واجباته وممارسة صلاحياته في المحكمة «بشرف وإخلاص وحياد وضمير» كما كان قد حلف أمامها في 6 شباط 2018؟
«سيدمّرونك وسيدمّرون المحكمة» قال المحامي الإسرائيلي البريطاني نيكولاس كوفمان للمدعي العام في المحكمة الجنائية الدولية كريم خان في أيار الماضي (بحسب مذكرة اطلع عليها الزملاء في موقع «ميدل إيست آي») بعد أن رفض الأخير التراجع عن التحضير لطلب إصدار مذكرات توقيف ضد الوزيرين الإسرائيليين إيتامار بن غفير وبتسئيل سموتريش وبعد مرور ستة أشهر على صدور مذكرات توقيف ضد نتنياهو وغالانت.
وكانت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب قد فرضت كذلك عقوبات على المدعي العام وعلى القضاة الدوليين الذين صدّقوا على مذكرات التوقيف المذكورة آنفاً. ففي آب الفائت أدرجت وزارة الخارجية الأميركية القاضي كيمبرلي بروست من كندا، والقاضي نيكولا غيو من فرنسا، والقاضي نزهات شميم خان من فيجي، والقاضي مامي ماندياي نيانغ من السنغال، على قائمة العقوبات لعملهم في المحكمة الجنائية الدولية وملاحقتهم مسؤولين إسرائيليين.
المحامي كوفمان (مدعي عام إسرائيلي سابق - 1996) كان قد صرّح بوقاحة في حزيران الفائت لهيئة الإذاعة العامة الإسرائيلية أن العقوبات الأميركية على أربعة قضاة في المحكمة الجنائية الدولية «كانت تهدف إلى تشجيع إسقاط أوامر الاعتقال بحق نتنياهو وغالانت». وقد تعرض خان كذلك إلى سلسلة من التهديدات والتحذيرات من شخصيات بارزة، بما في ذلك وزير الخارجية البريطاني السابق ديفيد كاميرون، بالإضافة إلى زملاء مقربين منه وأصدقاء لعائلته.
وقد عمل جهاز الاستخبارات الإسرائيلي «الموساد»، الذي كانت صحيفة «الغارديان» البريطانية قد أكدت أنه كان قد هدّد المدعية العامة السابقة للمحكمة فاتو بن سودا، على بثّ الرعب في الدوائر القضائية في لاهاي. وإضافة إلى التهديدات والعقوبات اتُّهم كريم خان في أيار من العام الماضي بالتحرّش بإحدى المحاميات في مكتبه. أجبره ذلك على التنحّي وفُتح تحقيق داخلي في المحكمة للتدقيق في هذا الاتهام.
المحاميان نزهت شميم خان ومامي ماندياي نيانغ، تولّيا مسؤوليات مكتب المدعي العام بعد تنحّي خان، ولكن رغم تعهّدهما بمتابعة المسار الذي بدأه خان بملاحقة المسؤولين عن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في فلسطين، لم تصدر حتى الآن مذكرات توقيف بحق بن غفير وسموتريتش. المحامي كوفمان، المكلف بالدفاع عن المسؤولين الإسرائيليين أمام المحكمة قال (بحسب «ميدل إيست آي»): «يعتقد معظم المعلقين أن معاقبة القضاة هي بمثابة تحذير، إن صح التعبير، قبل معاقبة نائبي المدعي العام اللذين تولّيا المنصب من كريم خان» بعد تنحيه. ورغم ذلك، أكد البيان الرسمي الذي صدر عن المحكمة الجنائية الدولية أن نواب خان سيواصلون عمله في جميع القضايا، بما في ذلك التحقيق في فلسطين.
أمرت المحكمة في نيسان الفائت بعدم نشر أي طلبات لإصدار مذكرات توقيف أخرى وبإبقائها سرّية لمنع تعرّضها للتهديدات الإسرائيلية والأميركية. لكن لم يكن ذلك كافياً لطمأنة نائبي المدعي العام فتمنّعا عن إرسال طلب إصدار مذكرات توقيف ضد بن غفير وسموتريتش إلى الهيئة القضائية التمهيدية لتصديقها حتى لو كان ذلك سرّياً.
وكانت محكمة العدل الدولية برئاسة نواف سلام، وهي الهيئة القضائية الرئيسية للأمم المتحدة، قد أصدرت في تموز 2024، رأياً قانونياً يفيد بأن احتلال إسرائيل لغزة والضفة الغربية غير قانوني. كما خلصت إلى أن «الفصل شبه الكامل» الذي تفرضه إسرائيل على الفلسطينيين في الضفة الغربية، بما في ذلك عبر توسيع المستوطنات، يُشكّل انتهاكاً لالتزاماتها بموجب القانون الدولي بمنع جميع أشكال الفصل العنصري (أبارتايد) وحظرها والقضاء عليها.
وقد استند مكتب المدعي العام في المحكمة الجنائية الدولية جزئياً إلى ذلك لتكوين ملف ملاحقة بن غفير وسموتريتش والتمهيد لطلب اعتقالهما. وفي 27 أيار، ذكرت صحيفة «وول ستريت جورنال» الأميركية أن المدعي العام كان يستعدّ لطلب مذكرات توقيف بحق بن غفير وسموتريتش لارتكبهما جرائم حرب تتعلّق بتوسيع المستوطنات. لكن الصحيفة لم تذكر أن الفصل العنصري (أبارتايد) كان تهمة محورية ضد الوزيرين الإسرائيليين، ولا أن الخطوة الوحيدة المتبقّية لمكتب المدعي العام هي تقديم طلبات توقيفهما من القضاة.
فبموجب نظام روما الأساسي (نظام المحكمة الجنائية الدولية) يُعدّ الفصل العنصري جريمةً ضد الإنسانية. ويُعرّف بأنه «أفعال لا إنسانية (...) تُرتكب في سياق نظام مؤسسي من القمع والهيمنة المنهجية من قبل جماعة عرقية على أي جماعة أو جماعات عرقية أخرى، وتُرتكب بقصد الحفاظ على هذا النظام». وفي حال صدور مذكرات توقيف ضد بن غفير وسموتريتش، ستكون المرة الأولى التي تُوجّه فيها المحكمة الجنائية الدولية تهمة الفصل العنصري (أبارتايد) منذ إنشائها عام 1998.
استقال الرئيس نواف سلام من محكمة العدل الدولية في 14 كانون الثاني 2025 وغادر لاهاي مرتاح البال، فلا شك أن تولّي وظيفة سياسية برضى الأميركيين ورعاية المملكة العربية السعودية والإمارات آمن وأريَح من تولّي رئاسة محكمة دولية تسعى إلى محاسبة إسرائيليين مدعومين بشكل مطلق من الولايات المتحدة الأميركية لارتكابهم إبادة جماعية وجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.